مرجئة الفقهاء
قال: [الإمام أبو حنفية رضي الله تعالى عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع؛ فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك، فمن أدلة أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن أخوة يوسف: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم؛ ولأنه ضد الكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما. وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: ((آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) في مواضع من القرآن] اهـ. ما ذكره رحمه الله من أنه لا يجوز أن يقع البغي والعدوان والافتراق قد سبق شرحه، ولذلك ننتقل إلى الجملة التي تليها من المحذورات التي ذكرها رحمه الله وهي قوله: (وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم) أي: أنه لا يجوز أن يصبح خلاف المرجئة الفقهاء -الذي هو خلاف لفظي في هذه المسألة- ذريعة إلى الخلاف الحقيقي الذي هو خلاف المتكلمين الذين خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا الأمر، ووقعوا في الإرجاء المذموم، وقد كتب المعلق على الطبعة التي حققها الدكتور عبد الله التركي و شعيب الأرناؤوط -ولا أتردد أن هذا من تعليق شعيب الأرناؤوط وليس من تعليق الدكتور عبد الله التركي -يقول: (الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم فهذا لا بدعة، ولا يذم قائله).وهذه القضية واضحة جداً، وهذا الرجل غفر الله لنا وله يبدو أنه حنفي المذهب، فيريد أن يدافع عن الحنفية بأي طريقة، لكن الحق أحق أن يتبع، ونحن نحب الإمام أبا حنيفة رحمه الله وندافع عنه وعن أي إنسان، ونحمل كلامه على أحسن المحامل، أما إذا كان الكلام خطأ فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يضيره ذلك إذا كان الرد بالدليل العلمي وبالأسلوب المقنع، فلا يضر أحداً أن يرد عليه، وإنما يكون الإثم والبغي والعدوان في الغلو والتجاوز والسباب والتهم وسوء الظن، وتحميل الكلام ما لا يحتمل ونحو ذلك مما هو خارج عن حد العدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به، ونحن أولاً نناقش: هل فعلاً صار هذا الكلام ذريعة ًإلى بدع أهل الكلام المذموم؟ نقول: نعم أصبح كذلك؛ لأن المرجئة في الحقيقة هم جزء من الفرقة الكلامية كـالأشعرية الذين شيخهم في الكلام هو أبو الحسن الأشعري ، ويعتبرون علم الكلام هو علم التوحيد، لذلك يقولون: إنه أول من كتب في العقيدة، مع أن العقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أول ما دعا إليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر رسله إلى الأمم وإلى القبائل والبلدان أن يكون أول ما يدعون إليه هو العقيدة، فيأتي رجل في أول القرن الرابع ويكون هو أول من كتب في العقيدة! والقرون الثلاثة ماتت على ماذا؟ وهذا دليل واضح على أنهم يقصدون بالعقيدة غير ما نعتقده نحن، فعلم الكلام عندهم هو العقيدة، وجعلوا ما كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة من الاعتقاد مجرد أخذ بالظواهر دون تمحيص ونقد عقلي، فالنقد العقلي المتميز الذي يأتي بالحجج والبراهين الجدلية عندهم هو ما وضع وأصل على يد أبي الحسن ومن جاء بعده.